بروفسير أماني الصاوي تكتب قراءة نقدية لنص "الذبيح" للروائي العالمي محي الدين محمود حافظ الذبيح و رحلة البحث عن فضيلة مفقودة
يقدّم محي الدين محمود حافظ في نصّه "الذبيح" لحظةً إنسانية تبدو للوهلة الأولى بسيطة وعابرة، لكنها ما تلبث أن تتحوّل، عبر لغة إيحائية كثيفة، إلى مرآة واسعة تكشف هشاشة الوعي الإنساني وتناقضاته الأخلاقية. إنّ النص لا يروي حكاية طائر نافق بقدر ما ينسج حالة تأمّل وجودي، يتفجّر فيها المعنى من خلال مفارقة بين موتٍ طبيعي يفاجئ الإنسان، وموتٍ آخر يشارك فيه دون أن يشعر بوخز الضمير. هنا تتجاوز اللغة وظيفتها الوصفية لتغدو وسيلة مساءلة، والحدث الفردي يتحوّل إلى سؤال كوني.
يظهر الطائر في النص كرمز للبراءة المجرّدة، وللكائن الحر الذي يعيش خارج حدود رغبات الإنسان ومفاهيمه. بياض جناحيه وسكونه على صفحة الماء لا يشيران إلى الموت وحده، بل إلى صورة من صور السلام الكوني الذي ينكسر فجأة. إنّ الطائر هنا ليس مجرد مخلوق انتهت رحلته، بل رمز للجانب النقي من الوجود، ذلك الجانب الذي يتسلّل إلى روح الإنسان فيوقظ فيها دهشة الخلق الأولى. ولذلك، فإنّ لحظة اكتشاف موته ليست مجرد صدمة عابرة، بل انهيار لتوازن داخلي، إذ يجد الإنسان نفسه وجهًا لوجه مع حقيقة الموت التي طالما حاول تجاهلها.
غير أنّ النص لا يتوقّف عند حدود هذا الأسى الجمالي، بل يفتح قوسًا رمزيًا أعمق. فالطائر الذي يموت «بحرية» ودون تدخّل بشري، يقف في مواجهة الذبيحة التي يحملها الكاتب على طبقه، تلك الذبيحة التي لم تمت مصادفة، بل قُدِّم موتها ضمن منظومة من الأعراف، والطقوس، والمصالح الإنسانية. هنا ينكشف البعد الفلسفي للنص: إنّ الإنسان يتعاطف مع الموت الذي لا يشارك فيه، ويغضّ الطرف عن الموت الذي يسهِم في وقوعه. هكذا يصبح الطائر رمزًا للموت الذي يواجهنا بضعفنا، بينما تتحوّل الذبيحة إلى رمز للموت الذي نطمره داخل عاداتٍ مريحة، نمارسه دون أن نراه.
في هذه المفارقة العميقة يكمن جمال النص، إذ يجرّد الإنسان من ادعائه الأخلاقي. فالسؤال الذي يطرحه الكاتب على نفسه—"أم أنا مدّعي الفضيلة؟"—يأتي كتعرية للضمير، وكأنّ النص يقول: الفضيلة ليست في التعاطف مع ما يقع أمام أعيننا، بل في القدرة على مواجهة تناقضاتنا الداخلية وإعادة النظر في ممارساتٍ ألفناها حتى غدت بلا معنى أخلاقي. إنّ الطائر الذي مات فوق الماء يكشف للإنسان شيئًا مخفيًا عنه: أنّ مشاعر الشفقة لا تعني بالضرورة نقاءً داخليًا، وأنّ الحزن قد يكون أحيانًا رفاهية شعورية لا اختبارًا حقيقيًا للقيم.
ويستثمر الكاتب صورة الطائر لإعادة طرح سؤال الحرية. فالطائر، بخفته وانفلاته من كل قيد، يمثّل نمطًا من الوجود لا يستقيم مع رغبة الإنسان في السيطرة والاحتواء. حين يتساءل الكاتب هل يستطيع أن يضمّ الطائر إلى بيته، تتجاوز الفكرة معناها الحرفي لتصبح مجازًا عن ميل الإنسان إلى تملك كل ما يعجبه، حتى الجمال. غير أنّ موت الطائر تحت السماء المفتوحة يعلّم الإنسان درسًا قاسيًا: الحرية قد تكون أثمن من الخوف، مهما كلّفت من خسارات.
وبين الطائر والذبيحة يقف الإنسان، حائرًا بين صورتين للموت، وصورتين للذات. هنا يمنح النص قارئه مساحة واسعة للتأمل: أيّ نوع من الموت نرثي؟ وأيّ نوع نتجاهله؟ ومن الذي يشعر بالألم حقًا—الكائن الذي رحل؟ أم الإنسان الذي يبني صورة أخلاقه على هذا الرحيل؟
إنّ "الذبيح" نصّ يضيء المنطقة الرمادية بين الشعور والواجب، بين التعاطف والحقيقة، بين الفضيلة ومجرّد الادعاء بها. إنّه نص يذكّرنا بأن الأخلاق ليست معطًى ثابتًا، بل اختبار يوميّ يكشف ما نجهله عن أنفسنا أكثر مما يكشف عمّا حولنا.
وهكذا يتحوّل مشهد الطائر الميت من واقعة بسيطة إلى لحظة مواجهة روحية، تجعل الإنسان يرى ما خلف الظاهر، فيكتشف أنّ الموت ليس النهاية فحسب، بل بداية الأسئلة كلها.


0 تعليقات