الرجعية والأصولية
بقلم محمد فتحي شعبان 🇪🇬
أسعد الله حياة الجميع وبارك لكم في حياتكم ...
أما بعد :
الرجعية والأصولية من المصطلحات الشائعة والتي انتشرت بداية من القرن الماضي ، وكانت دوما تعد من التهم التي توجه للجماعات الإسلامية خاصة ، وقد التبس معناها علي كثير من الناس وخاصة أنه يتم الخلط بين مفهومها عند الغرب والمفهوم العربي لها ، أيضا ظروف نشأة تلك المصطلحات في المجتمع الغربي ، والظروف التي ظهرت فيها في المجتمع العربي .
بداية سنقوم بتعريف مصطلح الأصولية ثم مصطلح الرجعية
الأصولية : هي في الاصل مصطلح غربي النشأة ومعناه في العربية مختلف عن معناه الغربي ، وهي في الأصل حركة بروتستانتية التوجه أمريكية النشأة ، انطلقت في القرن التاسع عشر الميلادي ، من صفوف حركة أوسع ، هي الحركة الألفية ( وهي حركة تؤمن بالعودة المادية والجسدية للمسيح عليه السلام ثانية إلي هذا العالم ، ليحكمه ألف عام تسبق يوم الدينونة والحساب .
أما موقفهم الفكري فقد تميز بالتفسير الحرفي للإنجيل وكل النصوص الدينية الموروثة ، والرفض الكامل لأي لون من ألوان التأويل لأي نص من هذه النصوص .
وقد أصبحت الأصولية مذهبا مستقلا بذاته في بداية القرن العشرين ، حيث تبلورت لها مقولات تنطلق من التفسير الحرفي الإنجيل ، داعية إلي مخاصمة الواقع ورفض التطور ، ومعاداة المجتمعات العلمانية .
فهم يدعون التلقي المباشر عن الله ، و يتوجهون إلي العزلة عن الحياة الاجتماعية ، ويرفضون التفاعل مع الواقع ، و يعادون العقل والتفكير العلمي، تلك هي الأصولية في الاصطلاح الغربي .
أما وفقا للمفهوم الإسلامي ...فإننا لا نجد في معاجمنا القديمة ذكرا لهذه النسبة ( الأصولية ) وإنما نجد الجذر اللغوي ( الأصل ) وهو يعني أسفل الشىء وتعني أيضا الحسب وجمعه (أصول ).
ويطلق الأصل علي القانون والقاعدة وعلي الحالة القديمة ، وهكذا خلا ويخلو تراث الإسلام وحضارته ، وتخلو معاجم العربية وقواميسها من مصطلح (الأصولية ) ومن المضامين التي عرفها الغرب لهذا المصطلح .
و حتي في فكرنا المعاصر الذي استخدم علمائه هذا المصطلح في علم اصول الفقه وجدناه يعني " القواعد الأصولية التشريعية ، التي استخدمها علماء أصول الفقه )
ولا علاقة لأي منها بمضامين مصطلح الأصولية في الحضارة الغربية .
إذن مصطلح الأصولية في الغرب يختلف تمام الإختلاف عن معناه العربي فالمصطلح الغربي يعني أهل الجمود بينما عند أهل الإسلام فهو يعني التجديد والاجتهاد والاستدلال والاستنباط.
ظروف نشأة هذا المصطلح عند الغربيين في الفترة التي كانت تسيطر فيها الكنيسة علي الحياة الفكرية ، وحالة الجمود الفكري التي وصل إليها الغرب ، جعلتهم ينقلبون علي الكنيسة انقلابا شاملا ، فكان هذا المصطلح ( الأصولي ) وهو الجامد الذي لا يتجدد ولا يتطور ، أما عندنا في الشرق فليس هناك مصطلح ( أصولي ) فلا وجود لهذه الكلمة ولا وجود لأي فكرة تتضمن نفس المعني ، إلا أن لفظة اصل في العربية تعني بداية الشىء أو جذره ، وأصول الدين هي القواعد الأساسية في التشريع والعقيدة ، ونجد فيها قول الله سبحانه ( افلا يتدبرون ...أفلا يبصرون ...أفلا يتفكرون ) إلي غير ذلك وهي تحث علي التدبر والتفكر ومن ثم التطور والتجديد ، ونجد أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام ( إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه )
كذا نجد واقع المسلمين في القرون الأولي ...نجد تطور هائل و قفزات سريعة في مسار التقدم العلمي والفكري لم يحدث لأمة من الأمم .
لذا فإن هذا المصطلح لا يتماشى مع واقع الإسلام ، لأن واقعهم غير واقعنا ، وإن كان بعض المستغربين يحاولون اسقاط تلك المفاهيم علي الأمة المسلمة ، لكن الأمر مختلف تماما .
# هناك العديد من المصطلحات التي ظهرت في العصر الحديث ، وقد تلقاها المثقفون وغيرهم كما لو أنها إحدى الموضات ، وأصبحت تتردد علي السنة الجميع وكل يستخدمها وفق هواه ، قد لا يتبين البعض ما تحت هذا المصطلح من معني أو ما يرمي إليه ، هناك أيضا العديد من المصطلحات المطاطة التي تتسع لعديد من التعريفات وكل يعرفها وفق ما فهم منها أو وفق هواه .
هناك قاعدة أساسية تقول ( لا مشاحة في الإصطلاح ) وهي تعني أن الخلاف إذا كان واقعا في الأمور الإصطلاحية فإنه لا ينبني عليه حكم ولا اعتبار ، وتظهر هذه القاعدة فيما لو حصل اتفاق على المعني واختلفوا في التسمية أو اللفظ ، إذ أن ما يعنينا هو تعريف ذلك الاصطلاح اي ( ما هو بداخل الإطار وليس الإطار نفسه ) ، أعود مرة أخري للقول بأن هناك العديد من الإصطلاحات التي يتم تداولها هذه الإصطلاحات تحمل كثيرا من التأويلات ، فلا بد من توضيح ما ترمي إليه ، ولا نكون مثل الببغاء .
الرجعية و التقدمية :
اللفظين متضادان ...الرجعية الرجوع إلي الخلف والتقدمية التقدم إلي الأمام ، هذا ما يتبادر إلي الذهن حين تقرأ هذين المصطلحان .
الرجعية :هي مصطلح في العلوم السياسية ويعني ..العودة إلي حالة سياسية سابقة للمجتمع يعتقد أنها تتمتع بخصائص غائبة عن الوضع الراهن المعاصر ، وتستخدم في الإشارة إلي موقف شديد المحافظة يعارض التغير الإجتماعي أو السياسي ، وكما يقول المنظر السياسي( مارك ليلا ) فإن الرجعية تتطلع إلي قلب وضع الإنحطاط الحالي واستعادة الماضي المثالي .
وفي تعريف آخر للرجعية : المقصود بها أي فكر أو أيديولوجية تعارض التغير في المجتمع والوقوف ضد الإصلاحات الجديدة .
إذن الرجعية الفكرية هي التمسك بالقديم ومعارضة التغيير ، وهي تنظر إلي الوضع الحالي علي أنه سئ وان الأفضل الرجوع إلي حالة سابقة ، فهي علي ذلك تعني الجمود الفكري كمثيلتها الأصولية وذلك في التعريف أو المفهوم الغربي .
التقدمية وهي مشتقة من التقدم أي التحرك للإمام ، وفي المفهوم السياسي فهي فلسفة سياسية عامة تدعم الإصلاحات التدريجية الإجتماعية ، والسياسية ، و الأقتصادية ، والتقدم هو الحركة التي تسير نحو الأهداف المنشودة و المقبولة أو الأهداف الموضوعية التي تنشد ما هو خير ، أو تنتهي إلي تحقيق النفع .
البعض يعني بالتقدمية أنها التقرب من الغرب واتباع مناهجه دون تمييز بين ما هو سئ أو حسن .
في العربية لا نجد لفظة رجعية ولكن نجد رجوع ومرجع ، والمرجع هو الأصل الذي تعود إليه أو المصدر الذي تعود إليه ونستقي منه أفكارنا ومفاهيمنا ، والرجوع هو العودة للخلف .
إشكالية الرجوع إلي الوراء والتقدم إلي الأمام :
تخيل انك تقف موليا ظهرك إلي الشمال و موجها وجهك إلي الجنوب ، فأنت كلما سرت إلي الجنوب تقدمت إلي الأمام ، تخيل نفسك تقف العكس اى موليا ظهرك للجنوب و موجها وجهك للشمال فأنت كلما سرت إلي الشمال تقدمت إلي الأمام .
كيف يكون موقفك تقدمي ام رجعي ... الموضوع برمته مرتبط بالحق والباطل ، ليس بالجديد والقديم ولكن حق وباطل وهذا هو الفيصل والمرجع الذي نرجع إليه .
الحق والباطل مصطلح غير مطاط فيمكن التحاكم إليه في مسألة الرجعية والتقدمية والأصولية .
أسعد الله حياتكم
أصولوفوبيا
كتبت قبل ذلك عن الأصولية والرجعية وأنهما من التهم الجاهزة المعلبة التي يتم توجيهها للمسلمين خاصة ولكل من يخالف العالم الغربي عامة ، قد بينت معني الرجعية والأصولية وان ليس لهما وجود في اللغة العربية كمصطلح يعني ما يعنيه المصطلح الغربي .
فمن وجهة نظر العالم الغربي يري الأصولية والرجعية سبة و تهمة لأنها وفق ما عايشوه تعني الجمود وعدم الرغبة في التغيير وقد كان للكنيسة الغربية ورجال الدين في أوروبا دور كبير في هذه الرؤية ، إذ أن الجمود الفكري كان يسيطر علي رجال الدين ، وإن الدين كان مرتبط بمصالح السلطة فكان رفض الإصلاح والتغيير ، وبذا تم توجيه نفس التهمة لكل من تمسك بأصول الدين لكن...في الدين الإسلامي الأمر مختلف إذ أن القرءان والحديث يحثان المسلمين علي التفكر و التدبر وعلي طلب العلم والإصلاح وتغيير الأمور السيئة إلي الافضل ، لكن ليس الافضل من وجه نظرهم بل الافضل وفق ما تراه الشريعة الإسلامية ، إذ كما ذكرت أن بيئتهم و مجتمعاتهم و مفاهيمهم تختلف عن شبيهاتها لدينا ، الخلفيات الثقافية والدينية والمجتمعية كل ذلك يختلف ، فالافضل لديهم غير الافضل لدينا .
الأصولية كما يتبادر إلي الذهن تعني الرجوع إلي الأصول أو هي أصل الشىء و جذره و أساسه فبذلك تعني الأصولية التمسك بقواعد وأساسيات ديننا و حضارتنا ، وكما ذكرت فإن ديننا يحث علي التجديد والتغيير وليس دين جامد حتي انك تجد في القرءان العديد من الآيات التي تحث علي التدبر والتفكر والتغيير كذا تجد الحث علي طلب العلم وعلي استخدامه في حياتنا ، كذا تجد الفقه يعالج العديد من القضايا المستحدثة بالرجوع إلي اصول الفقه وهذا يدل علي مرونة الشريعة و أنها تصلح لكل أوان .
أما الرجعية فهي لا تعني التخلف وليست مرادف له ،فالرجعية وفق المصطلح الغربي تعني التمسك بما هو قديم وإن كان لا يتوافق مع العقل والحس ورفض الإصلاح لأي سبب ، لاحظ أيضا هنا أن قديمنا غير قديمهم و ماضينا غير ماضيهم ، وتدبر التاريخ لا يعني الوقوف عنده بل هو يعطينا رؤية للمستقبل ، فدراسة التاريخ مهمة لمعرفة الهوية وتكوين ذاكرة حضارية تكون عونا لنا فيما هو آت .
ما أود قوله هو أن المصطلحات الغربية عامة تنطلق من ثقافتهم و خلفياتهم الحضارية والمجتمعية والتي تختلف عن ما هو لدينا .
دمتم بخير .

0 تعليقات