رواية حارة السد السيد فريج اصدار دار كتبنا/القاهرة ٢٠٢٠
الحلقة الخامسة
... أسير في شارع زهدي بعد منتصف الليل بقليل، يكاد يخلو من المارَّة، غيْر بعض أناسٍ من سكرٍ تتمايل، وسيارات قليلة، جاهدًا أحاول إيقاف إحداها ولم أوفق، أشعر بِهَمٍّ وحَزنٍ شديديْن، هل فقدتها للأبد، أردد بيْني وبيْن نفسي وكأنِّي أعرفها منذ زمن بعيد، أو تربطني بها علاقة لا أدريها أو كأنِّي كنت بها على موعد وتخيَّلتها واهمًا تبادلني ما أشعر به، يتملَّكني هذا الإحساس ولا أستطيع الفكاك منه، يتنازعه إحساس آخر يطغى عليْه يصرخ في أذني، ويحطم قلبي، لن تراها، ويتردد كقيْدٍ يشتت فكري ويمزق قلبي، وعينيَّ لا ترى غيْرها، أمشي ببطءٍ شديد وقدميَّ لم تعد قادرة على حملي، متسائلًا لنفسٍ أسيرة الفقر وحارة السد، أتجاوزتُ أن قلتُ لها ذلك؟ وأُجيبُ وماذا قلتُ، إنها مجرد مجاملة بسيطة، وتعنِّفني نفسي لم يمضِ على علاقتك بها دقائق، لكنَّها من شجَّعني ألم ترافقني "البوفيه"؟ ألم تختر وتضع بيدها الطعام في طبقي؟ أنا لم أتجاوز، ولِمَ تؤنب نفسك إذن؟ ولماذا لا يكون انصرافها أمرًا طبيعيًا أو استجابةً لنداء صديقتها؟ لا تُحَّمل نفسك أمرًا ربَّما غير موجود ولم يرد ببالها، ولماذا لم ترد عليَّ حين سألتها أنْ أراها مرة أخرى؟ ربما الخجل، وربما ليْس بين اهتماماتها أنْ تراني، والأمر لي مجرد لحظات خارج التاريخ أو حلم راودني في لحظة أنْ غابت فيها نفسي عن نفسي، يجب أن تعود سريعًا وتدرك قدرك، وما بقدري؟ وبما يتميْز هؤلاء عنِّي؟ أنا شاب مجتهد أحافظ على أخلاقي وقيْمي وأخشى الله في كل أمري، أنت فقير تعيش هذه الحياة بالكاد ولعلك رأيْت حياةً لم تخطر ببالك خلال هذا الوقت البسيط، عُد إلى رشدك ولا تنسَ تعبيرك "سكان الأدوار الدنيا"، إنك ابن حارة السد ذات الشارع الواحد والباب الواحد، أرأيْتَ في شوارعهم أبوابًا، ألم ترَ أنهم يغلقون عليْنا بابًا، ليْس حرصًا على حياتنا وإنما راحة من أشكالنا، خاصة وأنَّ غلق الحارة ليلًا يتم بتعليمات "البك الحكمدار"، حديث نفسي ونفسي، تتجاذبني الأفكار والكلمات، بيْنما تبقى صورتها ترافقني الطريق، أراها في أوراق الشجر وضَيِّ القمر وبريق نجمة هائمة أو حتى ضوء سيارة قادمة، أتحسس يدي بالأخرى وكأنما أردت التأكد أني متوَّهم ولا أحد سواي، وتحادثني نفسي ألدَيْك شك؟ وأثور عليْها بل ربما مجنون، أكثر من ساعة أسير ولمسافات طويلة قَطَعْتُ، أشعر بإعياء شديد، أعائد من حفل، أم من صراع مرير؟ كم أنتَ ملعون أيها الفقر!
بَدت أنوار محطة القطار واضحة، ها قد صعدت قطار الضواحي والذي يبدو خاليًا تمامًا من الركاب، بينما يكون مزدحمًا في العودة إلى المدينة بعد الفجر، مكتظًا بصغار التجار والفلاحين ونسوتهن يحملْن الجبن واللبن والسمن والدواجن والخضروات والفاكهة وغيْرها، وقد حُرِموها ليبيعوها للأكابر ويتعيَّشون بثمنها لقضاء احتياجاتهم الأساسية من دواء وكساء وغذاء، أشم رائحة الحارة وتلك آثار أهلي تلوث كل مكان بالقطار، وقد مزقوا كراسيه وأخذوا قطع "الإسفنج" للتَّلهي بها ونادرًا ما تجد به مرآة أو ربما بابًا أو شباكًا، أمِنْ حقدٍ أم حاجةٍ أم سوء تربية أو ضعف انتماء أو غيره فلتكن جميعها إنهم غرباء داخل بلادهم فلا تلومنَّهم!
القطار يسير وكأنه يزحف غير راغب في الحركة كسير النفس وهو أيضًا فقير ربما يتمنى أن يرحل إلى أُخراه، فقد أمضى عمرًا ذهابًا وإيابًا بلا تجديد أو تغيير، وللحظةٍ أرى "لوزا" بوجهها الملائكي وملابسها الراقية تجلس بجانبي على هذا الكرسي الخشبي المكسور فأنتفض خائفًا أنْ ينالها منه أذى، ثم ضاحكًا حتى خشيت أنْ يتخيَّل "الكمسري" أنِّي مجنون أو ربما أمسيْتُ هكذا فعلًا، برفقٍ منعتها من الجلوس فانصرفت ولم أُخبرها أنِّي أخاف عليْها، أتكون قد تَخَيَّلَتْ أنِّي لا أريد أنْ ترافقني للحارة، وتنبهني نفسي كفى، الرحمة بي وبك، وبيْنما "لوزا" تلوح لي محييةً، يجذبني عباس "البوسطجي" أن أجلس، سائلًا أيْن كنت والوقت قارب الفجر؟، يبتسم ويكمل أنت ضيْفي حتى الصباح وغدًا الجمعة ولا عذر لك، رائحته أكثر قبحًا من مظهره، أبتعد عنه، أعطيه ما كان في ذمتي له، يضحك فرحًا، يدعوني أنْ أسهر معه وأنَّ لديّه حشيش مغربي و"عرق" عراقي، وهو يعلم أنه ليْس لي شأن بهذا، والعجيب أنه يتحدث بصوت مرتفع وبصورة عادية وكأنَّ الحكومة تسمح بتجارة المخدرات، وأرُد عليه "اذهب عنِّي يا أخي أرجوك"، وكأنِّي أرى "لوزا" تحذرني، لا تخافي حبيبتي، كأني أُطمئنها، وصلنا محطة باب عنتر، نزلتُ وبعض أبناء الحارة منهم هذا المسطول وعمال الورادي بالمصانع المجاورة ومعامل الجبن والنسيج وغيرها، هابط إلى الحارة أتجه، سكان الأدوار الدنيا، يرافقني عباس يحمل زجاجة "العرق" بيده وكيس به طعام تفوح منه رائحة البصل وعفونة "الطورشي"، وصورة الحفل وصوت لوزا أنْ كانت تسألني لِمَ لا تأكل، ورغم أنَّ الجوع يعتصرني لا رغبة إلى طعام، أشعر كمن هبط فورًا من الجنَّة إلى الأرض، الفندق وأضواؤه وموسيقاه الشجيَّة، خَلقٌ آخرون بملابس زاهية وملامح راقية، رائحة العطور وتغريد الطيور، وهي بابتسامتها التي تحتوي كل الأرض سعادة وبهاء، يقترب عباس منِّي وأبتعد عنه برائحته المنفرة ومظهره الذي يعلن كم من الشقاء والتعاسة يعيش أهل حارتنا، تلك الازدواجية القاتلة لشاب مثلي يعيش كلتا الحالتين بعمقهما بلا انهيارأو سقوط ولم يلحقه يأس أو قنوط رغم فقر مدقع بفضل سيدة من أهل السماء بطهرها وعفتها ورقتها ورقيِّها، "جدتي نور" حبيبة قلبي وصانعة إحساسي، ثم هذا الرجل المجهول هديَّة الله لرعايتي وحمايتي من نفسي وقسوة حياتي، ولا أبالغ إنْ قلت تدليلي، إذن أنا مُرَفَّه، نعم، لوزا الجميلة، سنلتقي وستكون لحياتي شأن آخر، لن أفقد الأمل، سأبحث عنها في كل الدنيا وهي من صنع لحياتي قيْدًا من ذهب ورسم طريقًا للإنطلاق والفضاء، سأجعل من قيْدي سفينة بحث، وسأجدها يومًا، فوق الأرض أوبيْن النجوم مع الناس أو بيْن الأرواح، في الواقع أو في الخيال، سأجدها إنْ شاء الله.
وبيْنما أسير في رحلة الهبوط إلى الحارة يتلقَّفني عمي غريب قلقًا يحتضنني وكعادتي أقبل يده، كم اشتقت إليْه، أشعر بهدوءٍ وسكينة برؤيته، حاجة الطفل لأبيه أو كأنِّي عصفور صغير ضل طريقًا وقد وجد الآن أمَّه، أرى القلق في عينيه باديًا، لم ينطق بكلمة واحدة، شعرتُ بالخجل والألم لألمه، يغلق باب الحارة ونذهب صامتيْن إلى دارنا وليست ببعيد، نمر بجدتي نقرأ الفاتحة ودعاء بالرحمة والمغفرة، وإلى الغرفة ونفحات من نسيم طيِّب تطل علينا من نافذتها البحرية، وبملابسي ألقيْتُ بنفسي على السرير، ببطنٍ خاوية من الطعام شبعان بأحداث ما كانت تراودني ولو بأحلامي، مطمئنًا بحارتي ودارنا وجدتي وعمي قلقًا بمجتمع أستهجنه بل وأرفضه ولا أتآلف معه، سعيدًا بمحبوبة من السماء قد هبطت، تعيسًا أنْ غادرتني إلى حيْث لا أعلم، يملؤني الأمل أنْ ألقاها يومًا ومرارة أنْ أكون فاقدها دومًا، وبين كل ذلك تغمض عينيَّ على عمي غريب وهو يعد العشاء بلا حديث، وإلى سُبات عميق، نمت...
إلى اللقاء في الحلقة السادسة إن شاء الله...
السيد فريج
0 تعليقات